الخميس


عزلــــة الأكــاديميـــة العــربيــــة

حتى نهاية عشرية الثمانينات من القرن الماضي كان مطلب تعريب العلوم الإنسانية و الاجتماعية في البلدان العربية مطلبا ملحا و محقا. لقد كان مطلبا للنخب الوطنية التي كانت تعتبر أن تدريس هذه العلوم باللغة الأنقليزية و الفرنسية يجسد تواصلا للإرث الاستعماري، و كانت ترى أن إتمام إنجاز الاستقلال السياسي يفرض القطع مع لغة الدولة الاستعمارية، بحيث تدريجيا عربت هذه العلوم، و ارتباطا بذلك تكون جيل من الأكاديميين العرب ممن يكاد يكون أحادي اللغة : لا يقرأ إلا ما كتب باللغة العربية، و لا يستطيع أن يكتب بغير لغته الأم.

حاليا، أصبحت الجامعات العربية تتكون من جيلين : جيل القدامى، معه ثنائي اللغة، إذ تكون في الجامعات الغربية و رسائله الجامعية كتبها بغير اللغة العربية، و عندما انخرط في باب العمل الأكاديمي ببلده الأصلي أعاد إكتساب حذق ممارسة لغته الأم، و جيل المحدثين الذين يكاد أغلبهم يجهل اللغات الأجنبية خصوصا من تلقوا تكوينهم الأكاديمي في بلدهم الأصلي، و إن كان يفهما إلا أنه يتعسر عليه الكتابة بواسطتها. و كدليل على ذلك يمكن النظر في أعمال الندوات التي أقيمت في بعض البلدان العربية بمناسبة ذكرى مرور 600 سنة على وفاة ابن خلدون، و التي بدأت تصدر تباعا، و لا يوجد في بعضها مقال وحيد كتب بغير اللغة العربية، و في بعض المقالات لا يوجد استشهاد يتيم بكاتب غير عربي.

صحيح أن عملية التعريب بينت خطأ أولئك الذين شككوا في جدوى العملية، و بينت صواب من كان يدافع عن قدرة اللغة العربية على استيعاب كل مفردات الحداثة البحثية، و كان يقول أنها لغة ثرية لا يستحيل عليها ترجمة أي كلمة أجنبية، و حاليا هناك مئات المحاولات الجادة في هذا المضمار التي تثبت صحة هذا الرأي. لكن في المقابل أدت العملية إلى عزلة أكاديمية عربية واضحة. فجيل المحدثين الذي ينشر حصرا باللغة العربية، رغم جودة بعض دراساته، بقي مجهولا به خارج العالم العربي، و بعضهم لا يعرفهم إلا زملائهم من نفس البلد فقط. كيف يمكن أن يصلوا إلى درجة العالمية إن استحال على غير العرب مطالعة كتاباتهم، و لم تترجم كتبهم، بحيث لا يستدعون كأستاذة معارين أو زائرين أو محاضرين في الجامعات الغربية العريقة، و نادرا ما شاركوا في الندوات العلمية خارج البلدان العربية، و لم ينشروا مقالات في المجلات الأكاديمية الغربية ذات السمعة العالمية.

أقلية من الباحثين العرب في ميادين العلوم الإنسانية و الاجتماعية معروفون خارج العالم العربي ، إنهم أولئك الذين كتبوا مقالات في دائرة معارف الإسلام (نشر دار بريل)، أو من نشروا مقالات في المجلات الأكاديمية الغربية، أو أصدروا كتبا باللغة الفرنسية و الأنقليزية أثارت إشكاليات أو ملأت فراغا، و هؤلاء أغلبهم الآن شيوخ، و بعضهم غادر العمل الأكاديمي. أما "الشباب"، فبحكم أحاديتهم اللغوية الطاغية، ضيقوا على أنفسهم دائرة النشر، و بالتالي قلصوا حدود حلقة من لهم القدرة على مطالعة كتاباتهم التي لا تتجاوز في أحسن الحالات تخوم العالم العربي.

إن الكتابة حصرا بلغة أجنبية وضع لا يمكن بأي حال تبريره، عطفا على أنه أمر معيب يبين انبتاتا فكريا و اغترابا مرضيا. كما أن الكتابة حصرا باللغة العربية يعد بمثابة نكوص إلى ما قبل القرن التاسع عشر، و هو دليل مرض لا دليل عافية. من يريد كتابة متفردة، و تتسم بالعمق و الثراء عليه أن يحذق على الأقل لغتين، عندها سيكتسب منطقين، و معجمين، و موروثين ثقافيين، و هذا أقل ما هو مقبول بالنسبة لباحث يريد أن يكتسب صفة العالمية.
مقال من موقع إبن خلدون للدرسات الإنسانية والإجتماعية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق